تأملات في "هجوم العمالقه"

 🔶 تأملات في «هجوم العمالقة»: السعي إلى الحريّة وانتفاء الحقيقة المُطلقة – بقلم: "بشاير عبدالرحمن"

‏«هل نحنُ الفرائس؟ أبدًا، نحنُ الصيّادون».

مقالة تتناول فرادة «هجوم العمالقة»، وكيف غاص في دواخل النفس البشرية، وطرح عدة مسائل فلسفية، وشرّح الطريقة التي يؤثر بها التاريخ على الحاضر.


🔸«اعتقاد الناس بأن هذه الجدران الحصينة ستحميهم إلى الأبد ضربٌ من الجنون، حتى وإن صمدت هذه الأسوار لمئة عام، فاحتمالية هدمها واردة كل يوم»



🔸"آرمين آرليرت"


حققت الكثير من أعمال الأنمي في السنوات الأخيرة نجاحات باهرة وانتشارًا وحفاوة عالمية، إلا أنّ أول عملٍ يُذكر حين يدور الحديث حول الأنمي هو بلا شك «شينجِكي نو كيوجِين» أو كما نعرفه عربيًّا «هجوم العمالقة». وصل هذا العمل إلى شريحة هائلة حول العالم حتى المشاهدين الذين لم تسبق لهم تجربة مشاهدة عمل أنمي، فقد تمكّن هذا العمل بفرادته من الوصول إلى مختلف الفئات. استطاع الكاتب بناء هذا العمل بُنية متماسكة والغوص في دواخل النفس البشريّة من خلال الشخصيات، وطرح عدة مسائل فلسفية وتشريح الطريقة التي يستعرض بها البشر التاريخ وتأثيره على الحاضر. نستعرض في هذه المقالة بعض الجوانب اللافتة في هذه القصة.

اقراء ايضا

🔸مدخل


واجهت البشرية عدوًّا مرعبًا وغامضًا، حشدٌ من العمالقة التي تظهر من العدم، تفتك بالبشر على وجه الخصوص، تدمر أراضيهم وتلتهمهم دون أسباب واضحة. شارفت البشرية على الانقراض؛ فهرب من تبقى منهم إلى جزيرة وتحصنوا بثلاثة أسوار شاهقة الارتفاع. عاش البشر داخل هذه الأسوار قرنًا كاملًا إلا أنّ السلام الذي نعموا به كان سلامًا هشًّا وزائفًا، وصار هشيمًا تذروه الرياح حين ظهر عملاقٌ هائل من العدم ودمّر الحائط الأول. ما يعرفه سكّان الأسوار، أنّهم آخر من بقي من البشرية وأنهم بحاجة للتحصّن خلف هذه الجدران، وحمايتها والمحافظة عليها حتى لا يهلكون، هكذا يُقدم لنا الكاتب فكرة أولية ومدخلًا إلى العالم الغامض الذي نحن بصدد خوض غماره.


🔸الإلهام: قَبسٌ من الميثولوجيا النوردية


في الفصل الأول حيثُ نرى «إيرين» مستلقيًّا ويحلم تحت شجرة، تتفرع هذه الشجرة لتسعة فروع. قد لا يلفت ذلك انتباهنا في بادئ الأمر، لكن بعد تقدّم الأحداث نرى تشابهات بين القصة والأساطير النوردية المتعلقة ببدء الكون، ونتساءل إن كانت تلك الشجرة رمزًا لشجرة إغدراسيل «Yggdrasil»، شجرة الحياة التي تربط العوالم التسعة في الكونيات النوردية؟ يتأكد لنا ذلك حين يُكشف عن اسم «يمير فريتز» التي بدأت من عندها قوّة العمالقة، والتي أيضًا هي تسعة عمالقة إذ إنها تحمل نفس اسم العملاق الأول في تلك الأساطير «يمير». وفي أحد المشاهد يتحدث «آرمين» عن العالم الخارجي يذكر أراضٍ من الجليد وبحارٍ من النار وكأنه بحديثه يشير إلى عالمين من تلك العوالم التسعة، أرض الجليد «نيفلهايم» وأرض النار «موسبلهايم».[1]


🔸الإسقاط الواقعي


علِقت في ذهن الكاتب فكرة أثناء طفولته التي قضاها في قرية ريفية جبليّة في اليابان؛ إنّ كل الكائنات الحيّة عليها أن تتغذى على كائنات حيّة أخرى للبقاء. بقدرِ ما كانت هذه الفكرة قاسية إلا أنّها ما أدركه بتأمله في الطبيعة، فهذا هو العالم كما يراه باهر الجمال وقاسٍ في الوقت ذاته. من بداية العمل نلاحظ أنّ معظم الأشياء في هذا العالم الخيالي تُشابه إلى حدٍ كبير عالمنا الواقعي. لو تعمقنا بنظرةٍ فاحصة فإن الحياة داخل الأسوار وانغلاق البشر فيها على أنفسهم ومحدودية معرفتهم بما خارجها ليس مختلفًا عن عالمنا الواقعي، بل يتشابه هذا مع انغلاق بعض المجتمعات ثقافيًّا على ذاتها وربما أثّرت أيضًا نشأة الكاتب وطفولته التي قضاها في تلك القرية الصغيرة المنعزلة على الفكرة السائدة في العمل؛ رغبة الأبطال بالخروج إلى العالم الأوسع.


ومن جهةٍ أخرى نلحظ تشابه البيئة العامة للعمل بالثقافة الألمانية وبالأخص تاريخيًّا، فالعمارة تميل إلى الطابع الألماني بل إنّ المدينة داخل الأسوار اُقتبست في شكلها العام من بلدة ألمانية، وعدد من أسماء الشخصيات هي أسماء ألمانية أبرزها القائد «إيروين سميث».


وبالطبع لم يخلو مجتمع الأسوار من كونه تمثيلًا للديستوبيا، فنرى داخل الأسوار الصراعات واللامساواة والطبقيّة، فبالرغم من لجوء البشر إلى الأسوار لحماية نوعهم إلا أنّه حتى داخل هذه الأسوار تمّت التفرقة بين البشر حسب طبقاتهم الاجتماعية، فالأسوار قد قُسِّمت إلى ثلاثة أجزاء، سور ماريا وسور روز وسور سينا وهو المركز داخل هذه الأسوار الدائرية، وبالانتقال إلى الجانب الآخر نجد في أراضي «المارلي» منطقة لاحتجاز أقليّة «الإلديان» والذين يُجبرون على ارتداء شارات تحمل نجمة لتمييزيهم من سكّان «مارلي» الأصليين، حيثُ يستعرض العمل أيضًا فكرة التمييز والنقاء العِرقي عن قُرب.

من الناحية الفلسفية فهذا العالم بصراعاته مُشابه لفلسفة «شوبنهاور» التشاؤمية، حيثُ يرى أن الصراع أبديّ وليس صراع الإنسان مع نفسه ودواخله وحسب، بل إنّ هناك الكثير من الأمور الخارجيّة التي لا تنتهي والتي سيجد الإنسان نفسه مُحاصرًا بصراعاتها، إذ إنّ جوهر العالم هو شرٌّ دائم لن ينتهي إلا بالفناء.


بالتطرق لآراء الفلاسفة حول التشاؤم والتفاؤل، فقد شهِد تاريخ الفلسفة عددًا من التيارات منهم من شجّع التفاؤل ورأى أنّ الشر طارئ والعالم خيّر، وفريقٌ آخر مالوا إلى أنّ هذا العالم ملوّث بالشر لكن يمكن للبشر صناعة مكان أفضل لأنفسهم، ومن هذا المنظور يمكن أيضًا رؤية عالم «هجوم العمالقة» كصراع بين التفاؤل والتشاؤم، بين الأمل واليأس، فتنقسم شخصيات العمل في صراعات فكريّة، منهم من يتمسك بالأمل كفضيلة ويؤمن بالبشريّة وبإمكانية تخفيف الشر في هذا العالم الذي وجدوا أنفسهم فيه، وصناعة عالمٍ أفضل للمستقبل بتلافي أخطاء الماضي وإيقاف حلَقة الصراع هذه التي تعيد تكرار نفسها، ومنهم من يميل إلى اليأس من إمكانية إضاءة هذا العالم المُعتم. أما عن الكاتب فأرى أنه يتبنى فكرة أنّ هذا العالم يتأرجح بين الألم والجمال، فبالرغم من أنّ العمل يميل إلى كونه عملًا سوداويًّا إلا أنه لا يخلو من مسحة من الجمال الخلّاب والجوانب الرائعة.


🔸أوجه الحقيقة المتعددة، ومفهوم الخير والشرّ


«يمكن تشبيه الحقيقة بالهرم ذي الأوجه المتعددة حيث لا يرى الإنسان منه إلا وجهًا واحدًا في آن واحد. وقد يرى أحدنا وجهًا معينًا من وجوه الهرم هذا اليوم ثم يتحول عنه إلى غيره غدًا، وهو في كل يوم مغرورٌ بما يرى مُتعصبٌ له إذ يعتبر كل الناس ما عداه مخطئين»[2] يُناقش العمل من ناحية فلسفية مفهوم الحقيقة، إذ يطرح الفكرة التي تنفي وجود حقيقة مُطلقة، يكفي أن يؤمن مجموعة من الناس بفكرة ما لتُصبح حقيقة. نجدنا أمام قصة واحدة تُحكى من وجهات نظر مختلفة وحتى التاريخ يختلف باختلاف المكان، ولا دلائل كافية للانحياز إلى جانبٍ واحد، بل إنّ الكاتب يتعمد التركيز على جانب واحد في البدء لتميل بعاطفتك إليه ثم تجد نفسك في مأزق أخلاقي حين تُدرك أنّ الفريق الآخر لا يختلف كثيرًا عن الفريق الأول.


نستذكر هنا مقدمة الموسم الأول والتي تبدأ بسؤال صريح باللغة الألمانية:


“Seid ihr das Essen? Nein, wir sind der Jäger!”


«هل نحنُ الفرائس؟ أبدًا، بل نحنُ الصيّادون»، دائرة لا نهائية وهي تحديدًا الفكرة والركيزة الأساسية للقسم الأول من القصة، فهؤلاء الجبابرة يستهدفون البشر كفرائس والآن يتخذ البشر دور الصيّادين للقضاء على تلك الجبابرة.


يبدأ هنا دور السرد الجيّد، حيثُ يتم تأطير عواطفنا ضِمن الإطار التقليدي الذي نرى فيه صورة العدو، متوحش وقبيح ومُخيف ولا يبدو أنّه يستخدم عقلًا؛ بل إنّه يفتك بالبشر لمجرد الفَتك والتدمير دون أسباب واضحة، إذن هؤلاء الجبابرة شرٌّ مَحض يجب القضاء عليه. يتنامى الشعور بالغضب والصدمة، ونلاحظ في هذا السياق نهج الكاتب في الميل إلى استخدام الصدمات العاطفية، ليس فقط للقارئ أو المشاهد بل إنّنا نرى الشخصيات تنهار تحت سطوة الهلع وتتعرض لمواقف صادمة تخلّف آثارًا نفسية تبدو مستحيلة الشفاء، إذ إنّ الصدمة النفسيّة (trauma) هي أحد العوامل السيكولوجية الرئيسة في العمل، فنلحظ تبدّل ملامح الشخصيات ووضوح الأسى عليها، وبمجرد النظر إلى صورة لنفس الشخصية في بداية القصة وفي مراحل متقدمة نرى بجلاء الاختلاف المُحزن والقاسي الذي يتعرّض إليه أبطال القصة.


كلّ هذا يجعلنا كما ذكرنا -بشدّة- ننحاز لجانب واحد في القصة، إلى أن تلتفّ الصورة ويضعنا الكاتب في الجانب الآخر، ثم نرى أنّ للحكاية جانب هائل آخر لم نره في بادئ الأمر، فنعيد تشكيل وجهة نظر جديدة كليًّا. قوّة العمل تكمن هنا، هذه الحِبكة الملتوية (Plot Twist) هي ما يقدّم فكرة أنّنا دائمًا لا نرى إلا جزءًا قاصرًا من الحكاية ووجهًا واحدًا من الحقيقة، وذلك ينفي فكرة وجود حقيقةٍ مُطلقة يمكن اعتبارها منطقية ومقبولة من كل الجوانب، فما إن ينقلك الكاتب إلى الضفة الأخرى حتى تأخذ نفسًا عميقًا وتعيد التفكير بكل الأحداث من البداية وتنظر إليها بطريقة مختلفة كليًّا وسيصعب عليك اتخاذ موقف وغالبًا ستختار الحياد، ففي النهاية كما يقول ماركوس أوريليوس «كل ما نسمعه يظلّ رأيًا، لا حقيقة مُطلقة، كل ما نراه يظل منظورًا وليس الحقيقة».


إنّ مفهوم الخير والشرّ إحدى الإشكاليات التي لطالما شغلت الفلاسفة عبر التاريخ وفهم الشرّ وتفسيره مهمة ثقيلة ومُربكة، حاول بعض المفكّرين تقديم تعريف للشرّ من ضمنهم «كلوديا كارد» وهي أستاذة في الفلسفة والتي عرّفت الشرّ تعريفًا بسيطًا وعامًا إذ إنّه «ما ينتُج عنه أضرارٌ جسيمة، أو لا يمكن تحمّلها، من أفعال إنسانيّة لا تُغتفر» ويعد هذا الفعل شرًّا طالما نتج من إنسان عن قصد لإحداث الضرر -ماديًّا أو معنويًّا-، وطالما أنه مسؤولٌ عن فعله هذا.

وتبعًا لاختلاف الحقيقة فإنّ تلك المفاهيم في تحديد الجيد والسيء ستكون متباينة، إذ قد يكون ما هو جيّد لجماعة سيءٌ لجماعة أخرى كما في قصة «هجوم العمالقة»، والتي تطرح تساؤلات أيضًا حول مفهوم الشرّ واستيعابه، هل يمكننا مثلًا وضع معيار ثابت يحدد لنا أخلاقيًّا متى يكون الفعل خيّر كليًّا ومتى يكون شريرًا؟ والسؤال الأكثر أهمية الذي يتمحور حوله العمل، هل يعدّ ردّ الشرّ بشرٍّ مثله فعلًا شريرًا؟ لدينا في القصة مجموعات مختلفة من الناس تعتقد كلٌّ منها أنّ قيمها الأخلاقية هي المعيار الثابت الذي يفرّق بين الخير والشر أو الحق والباطل، تكوّنت لديهم أحكام مُسبقة نابعة من أيدولوجية تُغذّي الحقد والكُره -بالأخص لدى المارلي- لعلّها في النهاية هي الشرّ الحقيقي، يعلّمنا هذا أهمية التأمل والتفكير الفلسفي قبل الحكم على الأمور من منظورٍ قاصر، يقول برتراند راسل «إنّ المرء الذي يحيا مرهونًا بالأحكام المُسبقة، دون معونة استخدام عقله المفكّر، سيعيش في عالمٍ محدودٍ وضيّق»، فإنّ النظر إلى ما وراء الأفق الذي اعتدنا التحديق إليه ضروريّ لإدراك العالم بصورة أفضل.


🔸الذات وتكوينها


ما هي الذات؟ وما الذي يشكّلها؟ وهل نحن كما نتصوّر ذواتنا، أم أنّ جزءًا كبيرًا منا مغمورٌ في داخلنا ولا نعرفه إلا حين نواجه ما يكشفه لنا؟ وهل تبقى الذات واحدة طوال حياتنا أم أننا مُتعددي الذوات في كل مرحلة من حياتنا؟ محورٌ لافت ركّز عليه العمل، الذات البشريّة وتكوينها. تتكوّن الذات ببطء، من رغباتنا، دروب حياتنا، دوافعنا، والانعطافات الحادّة في طُرقنا، تلعب البيئة دورًا كبيرًا في الأحلام والدوافع التي تنمو داخل الإنسان، فما الذي قد يحلم به من يحيا داخل ما يشبه القفص سوى الحرية؟ إلا أنّ الحياة دائمة التغيّر، ووسط هذه الفوضى العارمة لم يعد الواحد يميّز جيدًّا ما هو الصواب وما هو الخطأ، وما هي هويته الحقيقية، ولأجل ماذا يحيا ويكافح. «أولئك الذيّن يعجزون عن التخليّ، ليس باستطاعتهم إحداث أيّ تغيير» تتكرر هذه المقولة في القصة، إذ تشرح حتميّة التغيّير في الحياة، وأنّ من يستمر في محاولة رفض وإنكار هذا التغيير لا يمكنه التقدّم. لكن تسلك القصة مسلكًا سوداويًّا وحالكًا فالخسارة والفقدان هنا عُنصران أساسيّان في هذه القصة المُظلِمة، فتتعرض الشخصيات لخساراتٍ حادّة، البيوت والأحباء والأحلام، والأقسى حين نُدرك أن أهم ما تتخلى عنه الشخصيات هُنا أو تفقده -قسرًا- هي ذواتهم.


يتضمن السرد عرضًا فاحصًا عن قُرب لدواخل الشخصيات العاجزة عن تلافي المواقف والأحداث القاسية التي تُهاجم أكثر مكنوناتهم هشاشةً وضعفًا. نستعرض هنا شخصيتين لفحص هذه الفكرة من خلالهما:


🔸البحث عن المعنى: «إيروين سميث»


اُقترحت من قبل علماء النفس جيف غرينبرغ وشيلدون سولومون وتوم بيزتشينسكي نظرية «السيطرة على الخوف» Terror Management Theory (TMT)، وهي نظرية تقترح أنّ الإنسان يقع في صراع نفسي لإدراكه حتمية زواله، حيثُ يجعله القلق الشديد من الفناء يحاول أن يجعل حياته ذات قيمةٍ ومعنى. تسلك هذا المنحى مُعظم شخصيات العمل؛ إذ يحيا البشر مُحاصرين بالرغبة إثبات الذات والشعور بأنهم كائنات ذات اعتبار وتقدير، ولعلّ معظم سلوكياتهم تنم عن تلك الرغبة.


شخصية القائد الثالث عشر لفيلق الاستطلاع «إيروين سميث» بُنيت بناءً مُحكمًا جعل الكثير من جماهير العمل تحترم تلك الشخصية، نرى في البدء قدرته على التأثير على الآخرين ومساعدتهم في التوصل إلى معنى لحياتهم، وقد ظلّ هو مدفوعًا طوال حياته بحلم شخصيّ وهو اكتشاف الحقيقة خارج الأسوار، إلا أنه بالوصول إلى نقطة معينة بدأ في مراجعة حياته السابقة والتشكيك في مُعظم قراراته وفي كل الرفاق والجُند الذيّن قادهم إلى الموت. إنّ الندم هو انفعال يشعر معه المرء بأن حياته كانت لتسلك مسلكًا أفضل لو اختار خيارات مُغايرة في الماضي، يحاصر البؤس «إيروين» ويبدأ بالتساؤل فيما إن كان للحياة التي عاشها معنى أم كانت محض حياة أنانية لتحقيق هدف شخصيّ؟


إنّ هذا القلق الوجودي عن معنى الحياة سيظلّ مُحاصِرًا للإنسان وعلى الأخص أولئك الذيّن لديهم تقديرًا أعلى للذات، فيسعى الإنسان بوعيٍّ أو دون وعي إلى ترك إرثٍ خلفه، ومعنى لوجوده وربما ذلك ما يقودنا إلى معظم تفاعلاتنا البشريّة وسلوكيات حياتنا. ناقش علماء النفس أنّ هذا القلق الوجودي من الفناء هو ما يدفعنا حتى إلى تكوين العلاقات والسعي في الحياة، لذا نرى «إيروين» في النهاية يتخلّى بشجاعة عن حلمه، تحديدًا حين أصبح قريبًا جدًا منه، لسبب واحد: تتويج حياته بالمعنى.


🔸ضبابيّة الذات: «إيرين ييغر»


علينا إدراك أنّ فهم العالم مفتاحٌ أساسيّ لفهم الشخصيات الموجودة فيه، فحين نحاول فهم شخصية «إيرين» الشخصية الأساسية التي يركّز عليها العمل، علينا أن ننظر إلى العالم من خلال عينيه.

تبدو هذه الشخصية متراكمة النقائض بالنسبة لكثيرين، لكن دراستها من مختلف الجوانب يُبيّن لنا أنّ لُب العمل يكمن في هذه الشخصية، وأنها الشخصية الأكثر تعقيدًا وثراءً من الناحية النفسيّة والأكثر تطورًا، فإن كان تطور الشخصيات عاملًا أساسيًا لجعل القصة جيدة فإنّ هذا العامل يتمثّل هنا، وعلينا الانتباه أنّ تطور الشخصية المقصود هنا لا يعني بالضرورة أن تتطور لتصبح شخصية «خيّرِة» أو «مقبولة أخلاقيًّا» ولكنه يعني نمو الشخصية وتكيّفها مع العوامل الخارجيّة مع الحفاظ على تماسك بنائها. إذن فهذه الشخصية بالتحديد هي التي نستطيع رؤية وفهم قصة «هجوم العمالقة» من خلالها. إن كنا سنُخضع «إيرين» لحكمٍ ما فإنّ من الصعب تحديد حقيقة ذاته أولًا، هل شكّلت الظروف التي عايشها الذات التي أصبح عليها؟ أم أنّ هذه الذات هي حقيقته التي لطالما كان عليها لكنها لم تُكشف إلا حين واجه ظروفًا لتعريتها؟ لعلّ هذه مسألة أخلاقية لا يمكننا الإجابة عليها إجابةً دقيقة.


تتشكّل الذات وتُبنى من خلال المعرفة، وإن حدث صَدعٌ هائل في هذا البناء المعرفي، أو انهار كليًّا فعلى الأرجح أن الذات ستختلف أيضًا، إذ ستحلّ أفكار وعواطف جديدة مُغايرة عن السابقة. ولو نظرنا عن قُرب لشخصية «إيرين» فإن تصوّره ووعيه السابق بالعالم الخارجي انهار كليًّا ليحلّ محله مفهوم جديد كليًّا، لذا فقد اختلفت فكرته عن العالم من حوله وبالتالي فكرته ووعيه بذاته. أيّ إنّ الذات مُتغيّرة، ومُتجددة، أو يمكننا تشبيه حياة الإنسان بالحكاية المُقسّمة إلى عدة فصول، وقد نحيا كل فصلٍ بذاتٍ مختلفة.


لطالما كان «إيرين» مدفوعًا بالغضب، بدايةً من الغضب الدفين على كل من كان سببًا في محاصرته داخل تلك الأسوار، فنرى في كلّ مراحل حياته أنّ ما يحرّكه ويدفعه للحياة هو وجود عدو له، بدءًا من الجبابرة ثمّ الأصدقاء الخونة، ثم المعتقدات التي تقيّد كل من حوله وأخيرًا العالم أجمع. يمكن القول إنه أثناء سعيه لانتزاع مكانٍ لوجوده في هذا العالم كوّن هذه الذات المُظلمة التي ساهم في نشأتها هذا الصراع فأصبح وجوده مرهونًا بوجود هذا الصراع وحسب.


🔸رمزية المحيط: معنى الحريّة وفقدان الذات


تختلف أهداف ودوافع الأبطال، إذ نرى شخصية هدفها الأسمى الخروج واكتشاف العالم المجهول والمعرفة، بينما تكافح شخصية أخرى لحماية شخص عزيز عليها، ويكافح آخرون لشعورهم بأهمية الالتزام بالواجب. لكل منهم حلم فريد يشعّ ويخفت، والجميع في النهاية يكافح لعالمٍ ينعم بالسلام، بالرغم من أن هذا العالم يبدو بعيد المنال وأشبه بالخيال بالنسبة إليهم.


ولأنّ الفضول البشري فِطرة يصعُب كبحها، وبطبيعتنا نتوق إلى المجهول الغامض، وإلى الجانب الآخر حتى وإن كُنا لسنا أكيدين من كونه أجمل. فقد كبُر هؤلاء الصغار يحلمون بعجائب العالم الأوسع ويبحثون عن طريقٍ للخروج من هذه الجدران واكتشافها، وستتجلى في هذا السياق إحدى الرمزيّات المهمة التي استخدمها الكاتب: «المحيط» والسعي إلى الوصول إليه، مساحة هائلة من الماء المالح لم يسبق لبشر الأسوار رؤية شيء مشابه أو تخيّله حتى.


تكمن أهمية هذه الرمزيّة في جانبين، أولًا اختلاف الطريقة التي نرى بها الأشياء، فنحنُ لا ننظر إلى الأشياء بالطريقة نفسها، فحتى إن وقف مجموعة من الأشخاص أمام لوحة واحدة فإنهم ينظرون إليها ويفهمونها بطريقة مختلفة.  كان «آرمين» هو من عرّف صديقه «إيرين» بذلك المحيط الموجود خارج الأسوار، لم يفتأ يتحدّث عنه بلهفة المعرفة والتوق إلى اكتشاف العالم الخارجي، بالنسبة «لآرمين» فقد كان هذا المحيط مُهمًا لذاته، المعرفة والاكتشاف لطالما كانت تلك هي دوافعه للمضي قُدمًا، أما بالنسبة «لإيرين» فهذا المحيط لم يكن مهمًا لذاته ولكنّ الهدف الأسمى هو حرية الذهاب إليه، ذاك هو الدافع الأقوى الذي يحرّكه، ينمو الغضب شيئًا فشيئًا بداخله لأن هذه الأشياء الغامضة التي لا يفهمها حتى الآن تسلبه حرية أن يعيش كجزءٍ من هذا العالم الذي خُلق فيه.


ثانيًا، في الطريق إلى المحيط تفقد كل شخصية جزءًا كبيرًا ومهمًا من ذاتها، لم تعد الأشياء تحمل نفس المعنى؛ فقد كان الطريق قاسيًّا وحالكًا وساحقًا للروح. نصل أخيرًا إلى مشهد الوصول إلى المحيط والذي تحدث عنه الكاتب «هاجيمي إيساياما» على وجه الخصوص، حيثُ يحمل «آرمين» صَدفة التقطها من المحيط ويتحدّث ببعض البهجة، لكن ودون التفاتة يحدّق «إيرين» ببؤسٍ نحو الأفق البعيد قائلًا: «لطالما اعتقدت بأنّنا سنجد الحريّة خلف المحيط، لكنني كنت مُخطِئًا».


Post a Comment

0 Comments